الشريط الكتابي بالاعى

6/recent/ticker-posts

حركة الإيكولوجيا العميقة تنبذ صورة الإنسان- في- بيئة لصالح صورة المجال العلائقي الشامل، وتعتبر الكائنات الحية عقدات في شبكة المحيط الحيوي أو عندما تنتمي العلاقة

حركة الإيكولوجيا العميقة


آرني نيس Arne Naess: فيلسوف نرويجي، عمل أستاذاً في جامعة أوسلو منذ أن كان في الخامسة والعشرين من عمره (تجاوز التسعين الآن) في العام 1972 وضع مصطلح الإيكولوجيا العميقة كمقابل للإيكولوجيا الضحلة، ومنذ ذلك التاريخ أصبح هذا التمييز واقعاً فتح أمام الحركات البيئية آفاقاً جديدة.

تمثل مشكلات التلوث واستنزاف المصادر الطبيعية مجرد جزء من اهتمام السياسات البيئية المسؤولة، إذ ثمة اهتمامات أعمق تمس مبادئ التنوع، والتعقيد، والاكتفاء الذاتي، واللامركزية، والتعايش، والمساواتية، واللاطبقية.

يشكل خروج الإيكولوجيين من التغيب النسبي السابق الذي لحق بهم منعطفاً هاماً في مجتمعاتنا العلمية، لكن رسالتهم حُرفت وأسيء استعمالها، يتنافس في ميدان الإيكولوجيا اليوم اتجاهان: الإيكولوجيا الضحلة، وهي حالياً الحركة الأقوى نوعاً ما، والإيكولوجيا العميقة، وهي الحركة الأقل تأثيراً، وسأبذل وسعي لعرض خصائص كل منهما.
حركة الإيكولوجيا الضحلة

تكافح التلوث واستنزاف المصادر الطبيعية، موضوع اهتمامها المركزي هو الصحة والرخاء والوفرة لسكان البلدان المتطورة.



حركة الإيكولوجيا العميقة

تقوم على المبادئ التالية:

1- تنبذ صورة الإنسان- في- بيئة لصالح صورة المجال العلائقي الشامل، وتعتبر الكائنات الحية عقدات في شبكة المحيط الحيوي أو مجال العلاقات الجوهرية، تكون ثمة علاقة جوهرية بين شيئين A وB عندما تنتمي العلاقة إلى هوية كل منهما أو تشكل عنصراً أساسياً فيه، بحيث لا يبقى كل من A وB على حاله بدون مثل هذه العلاقة، لذلك فإن نموذج المجال الشامل لا يلغي مفهوم الإنسان- في- بيئة وحسب، بل وكل مفهوم عن شيء مندمج في وسط ما- إلا عندما نتحدث عن المستوى السطحي أو الأولي للاتصال.

2- المساواتية ضمن المحيط الحيوي- مبدئياً، وكلمة "مبدئياً" مقحمة هنا لأن أية ممارسة واقعية توجب أحياناً القتل والاستغلال والقمع، يكتسب الناشط في الحقل الإيكولوجي احتراماً عميقاً، بل إجلالاً حتى، لأساليب وأشكال الحياة كافة، ويستنير بفهم داخلي- ذلك النوع من الفهم الذي يكنه غيره لرفاقهم البشر أو لقطاع ضيق من أساليب الحياة وأشكالها ليس إلا.

فبالنسبة للناشط في الحقل الإيكولوجي، يكون الحق المتساوي في العيش والتفتح مسلمة قيمية واضحة حدسياً وجلية، وإن استئثار البشر بها يعد مركزية بشرية ذات آثار مؤذية على نوعية الحياة عند البشر أنفسهم، هذه النوعية تعتمد، نوعاً ما، على المتعة والمسرة العميقة التي تتنزل علينا من شراكتنا الوثقى مع أشكال الحياة الأخرى، إن محاولة تجاهل اتكالنا هذا وتأسيس قاعدة السيد- العبد قد أسهم في اغتراب الإنسان عن ذاته.

3- مبدأ التنوع والتعايش: يعزز التنوع إمكانيات البقاء وفرص النماذج المستجدة للحياة وثراء أشكالها، إن ما يدعى الصراع من أجل الحياة والبقاء للأصلح ينبغي تأويله بمعنى القدرة على التصاحب في الوجود وعلى التعاون في إطار علاقات معقدة، بدلاً من معنى القدرة على القتل والاستغلال والبطش، إن مبدأ "عش ودعه يعيش" هو مبدأ إيكولوجي أقوى من "إما أنت وإما أنا".

ينزع المبدأ الأخير إلى اختزال وفرة أنواع الحياة وأشكالها وإلى إيجاد الدمار ضمن تجمعات النوع نفسه، أما المعايير الملهمة إيكولوجياً فهي تستحسن التنوع الإنساني في أساليب الحياة والثقافة والشغل والاقتصاد، إنها تؤيد النضال ضد الغزو والهيمنة الاقتصادية والثقافية بمقدار ما تناضل ضد الغزو والهيمنة العسكرية، وتعارض إبادة الفقمة والحيتان بمقدار ما تعارض إبادة الأقوام والثقافات الإنسانية.

4- الموقف اللاطبقي: إن تنوع أساليب الحياة الإنسانية ناشئ جزئياً- عن قصد أو عن غير قصد- عن الاستغلال أو القمع الذي تمارسه جماعات متعددة، يعيش المستغل بشكل مختلف عن المستغل، لكن كليهما يتأثر سلبياً في إمكانات تحققه الذاتي، مبدأ التنوع ينأى عن حجب الاختلافات تبعاً لمواقف أو سلوكيات مقموعة أو مكبوحة كرهاً، وإن مبدأي المساواتية الإيكولوجية والتعايش يدعمان الموقف اللاطبقي ذاته، يستحسن الموقف الإيكولوجي سحب المبادئ الثلاثة على أية نزاعات جماعية، بما فيها الصراعات الحالية بين الدول النامية والمتقدمة، تستحسن المبادئ الثلاثة أيضاً الحذر الصارم تجاه أية خطط شمولية للمستقبل، ما عدا تلك التي تتساوق مع التنوع اللاطبقي الواسع والمتوسع.

5- الكفاح ضد التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية: حظي أنصار الإيكولوجيا في هذا الكفاح بدعم قوي، لكنه في بعض الأحيان كان يؤذي موقفهم الإجمالي، يحدث هذا عندما يتركز الاهتمام على التلوث واستنزاف الموارد أكثر من بقية النقاط، أو عندما يكون إنجاز المشاريع التي تحد من التلوث مترافقاً مع زيادة آفات من ضروب أخرى، بذلك عندما يزداد الثمن المدفوع من أجل ضرورات الحياة بسبب استخدام الوسائل المضادة للتلوث فإن الاختلافات الفئوية تزداد أيضاً، تستلزم أخلاق المسؤولية أن يؤيد الإيكولوجيون حركة الإيكولوجيا العميقة وليس الإيكولوجيا الضحلة، وهذا يعني تبني النقاط السبع الواردة هنا جملة، وليس النقطة 5 فحسب.

الإيكولوجيون معلمون لا غنى عنهم في أي مجتمع، مهما كان لونهم السياسي، إن تنظيمهم الجيد يزودهم بالقدرة على رفض المهن التي يخضعون فيها لمؤسسات أو لمخططين ذوي منظور إيكولوجي محدود، إنهم، في الوضع الراهن، يخدمون أحياناً أرباب عمل يتجاهلون متعمدين المنظورات الأوسع.

6- التعقيد: تتضمن نظرية المنظومات الإيكولوجية تمييزاً مهماً بين التعقيد الذي يعدم صيغة أو مبادئ موحدة- مثلاً كيفية إيجاد طريقنا في مدينة عشوائية- وبين التعقيد بالمعنى العائد لنظرية المنظومات، إن عدداً وافراً (كثيراً أو قليلاً) من العوامل المتفاعلة قد تتكامل كي تشكل وحدة ما أو منظومة، مهما تكن درجة مشروعيتها، نحن نصنع حذاء، أو نستخدم خريطة، أو نكامل بين فعاليات متنوعة في نموذج عمل يومي، كذلك فإن الكائنات الحية وأساليب الحياة والتفاعلات ضمن المحيط الحيوي بشكل عام تفصح عن مستوى عال مذهل من التعقيد بما يلون النظرة الإجمالية للإيكولوجيين، يجعل مثل هذا التعقيد التفكير بلغة المنظومات الواسعة أمراً محتماً، كما أنه ييسر إدراكاً ثاقباً وثابتاً للجهل البشري العميق للعلاقات ضمن المحيط الحيوي، وبالتالي لعواقب الاضطرابات الناجمة.

بتطبيقه على البشر، يدعم مبدأ التعقيد تقسيم العمل وليس تشظيه، إنه يستحسن الأفعال المتكاملة، التي يكون فيها الشخص بكليته فعالاً، وليس مجرد ردود الأفعال، إنه يستحسن الاقتصاديات المتكاملة وتنوعاً متكاملاً في وسائل العيش، (الجمع بين النشاطين الصناعي والزراعي، بين العملين الفكري واليدوي، بين المهن الاختصاصية وغير الاختصاصية، بين النشاطين المديني والريفي، والجمع بين العمل في المدينة والترويح عن النفس في الطبيعة وبين الترويح عن النفس في المدينة والعمل في الطبيعة، الخ)، إنه يدعو إلى التقنيات "اللينة" والبحث المستقبلي "اللين"، مع تكهن أقل ووضوح أكثر في الممكنات إنه يستحسن تنمية الحساسية تجاه الاستمرارية والتراث الحي، والأهم من ذلك كله، تجاه حالة جهلنا.

يتطلب تطبيق سياسات مسؤولة إيكولوجياً في قرننا نمواً متزايداً في المهارة التقنية والاختراع- لكن في اتجاهات جديدة، أي في الاتجاهات التي لا تلقى اليوم دعماً متماسكاً وحراً من قبل إدارات سياسات البحوث في دولنا القومية.

7- الاكتفاء الذاتي المحلي واللامركزية: إن قابلية شكل ما من أشكال الحياة للتأذي يتناسب طرداً تقريباً مع حجم التأثير الذي يأتيه من الخارج، أي من خارج النطاق المحلي الذي يحقق فيه هذا الشكل توازنه الإيكولوجي.

ييسر هذا الأمر دعم جهودنا لتقوية الإدارة الذاتية المحلية والاكتفاء الذاتي العقلي والمادي، لكن هذه الجهود تفترض سلفاً توجهاً نحو اللامركزية، مشكلات التلوث، بما فيها التلوث الحراري وإعادة تدوير المواد، تقود أيضاً في هذا الاتجاه، لأن تزايد الاكتفاء الذاتي المحلي- عندما نستطيع جعل العوامل الأخرى ثابتة- يقلل من استهلاك الطاقة، (قارن الاكتفاء المحلي التقريبي مع ما يحتاجه استيراد المواد الغذائية ومواد البناء والوقود والعمالة الماهرة من مناطق أخرى: يحتاج الأول ربما إلى 5% فقط من الطاقة التي يستخدمها الثاني).

يتعزز الاكتفاء الذاتي المحلي بتقليص عدد الارتباطات في السلسلة الهرمية لاتخاذ القرار.

وعلى سبيل التلخيص، يجب أولاً ألا يغيب عن البال أن معايير واتجاهات حركة الإيكولوجيا العميقة لا تشتق من علم الإيكنولوجيا بواسطة المنطق أو الاستنباط، إن المعرفة الإيكولوجية وأسلوب حياة الناشطين في الحقل الإيكولوجي هما اللذان اقترحا منظورات حركة الإيكولوجيا العميقة وألهماها وأبرزاها، إن العديد من الصياغات في التقرير المسبع النقاط أعلاه هي، إلى حد ما، تعميمات غير واضحة، لا تصبح قابلة للحياة إلا عندما تضبط في اتجاهات محددة، لكن الإلهامات الإيكولوجية أظهرت عبر العالم نقاط التقاء لافتة، والتقرير أعلاه لا يطمح أن يكون أكثر من تنسيق مكثف بين هذه الالتقاءات.

ثانياً: ينبغي أن نقدر تقديراً تاماً أن المعتقدات المميزة لحركة الإيكولوجيا العميقة معيارية على نحو واضح وفعال، إنها تعبر عن منظومة أولويات قيمية تتأسس جزئياً فقط على نتائج- أو على نقص نتائج (راجع النقطة6)- البحث العلمي، واليوم يحاول الإيكولوجيون أن يؤثروا على نطاق واسع في الهيئات السياسية من خلال الإنذارات والتبنؤات المتعلقة بالملوثات واستنزاف الموارد، وهم على علم بأن صناع السياسة يوافقون على الأقل على معايير دنيا من الاهتمام بالصحة والتوزيع العادل، لكن من الواضح أن هناك عدداً هائلاً من الناس في جميع البلدان، بل وحتى عدد لا يستهان به من الأشخاص في السلطة ممن يوافقون على صحة المعايير والخصائص القيمية الأوسع لحركة الإيكولوجيا العميقة وعلى شرعيتها.

ثمة ممكنات سياسية في هذه الحركة ينبغي ألا تهمل، ولا تمت بصلة تذكر إلى مسائل التلوث واستنزاف الموارد، إن تخطيط مستقبلات ممكنة ينبغي أن يصوغ هذه المعايير ويستخدمها بحرية.

ثالثاً: بمقدار ما تستقطب الحركات الإيكولوجية اهتمامنا فإنها تتسم بسمة فلسفية أكثر منها إيكولوجية، ذلك أن الإيكولوجيا علم محدود يستفيد من المناهج العلمية، أما الفلسفة فهي المنبر الأعم للمناظرة والحوار حول الأساسيات، سواء كانت وصايا أو محرمات أو سياسات- والحكمة الإيكولوجيا فرع منها، وعندما أتكلم عن الحكمة الإيكولوجية أعني فلسفة التناغم أو التوازن الإيكولوجي، الفلسفة، كضرب من ضروب الحكمة معيارية على نحو واضح وصريح، فهي تشتمل على معايير، وقواعد، ومسلمات وإعلانات لأولويات قيمية، وفرضيات تتعلق بشؤون عالمنا، الحكمة هي حكمة التدبير ووصف الحلول، وليس التوصيف والتنبؤ العلميين وحسب.

ستبين تفاصيل الحكمة الإيكولوجية تنوعات عديدة عائدة إلى اختلافات لا يستهان بها، لا تتعلق بـ"وقائع" التلوث والمصادر الطبيعية والسكان الخ وحسب، بل وبالأولويات القيمية، غير أن النقاط السبع الواردة توفر اليوم إطاراً لمنظومات الحكمة الإيكولوجية.

بحسب النظرية العامة للمنظومات تتصور المنظومات بوصفها وأحداث متفاعلة أو مترابطة سبباً أو وظيفياً، أما الحكمة الإيكولوجية فهي منظومة أقرب إلى منظومة من النوع الذي ابتناه أرسطو أو سينوزا، يعبر عنها لفظياً بجملة من العبارات ذات وظائف متنوعة، توصيفية وواصفة للحلول، والعلاقة الأساسية هي العلاقة بين الجملة التحتية من المقدمات والجملة التحتية من النتائج، أي العلاقة الاشتقاقية، والمفاهيم الاشتقاقية ذات المتات يمكن أن تصنف بمقتضى الصرامة، حيث يترأس الاستنتاج المنطقي والرياضي القائمة، ولكن أيضاً بحسب مقدار ما يسلم به ضمنياً، لذا فإن عرضاً للحكمة الإيكولوجية يجب أن يكون بالضرورة معتدل الدقة باعتبار المدى الواسع للمادة الإيكولوجية والمعيارية ذات المتات (اجتماعية، سياسية، أخلاقية). وفي الوقت الحاضر، يمكن للحكمة الإيكولوجية أن تستفيد من استعمال نماذج منظومات وتقريبات إجمالية لأنساق إجمالية. إن الخاصية الإجمالية، وليس الدقة في التفصيل هي التي تميز الحكمة الإيكولوجية عن غيرها، إنها تنسق بين جهود فريق إيكولوجي مثالي وتكامل فيما بينها، فريق لا يضم علماء قادمين من اختصاصات متنوعة للغاية وحسب، بل طلاب سياسة وصانعي سياسة فاعلين أيضاً.

لقد انضوت تحت اسم المذهب الإيكولوجي انشقاقات متنوعة عن الحركة العميقة- تتسم بالدرجة الأولى بتشديد أحادي الجانب على التلوث واستنزاف الموارد، لكن بإهمال الفروق الهائلة بين البلدان الضعيفة النمو والفائقة النمو لصالح مقترب إجمالي ضبابي، المقترب الإجمالي جوهري لكن الاختلافات المحلية هي التي يجب أن تغلب في تعيين السياسات في الأعوام القادمة.



إرسال تعليق

0 تعليقات